الحكومة العراقية الحالية، إن صحت التسمية، تشكلت في ظروف استثنائية وسط احتجاجات شعبية، وبظل جائحة كورونا التي أصابت وقتلت آلاف العراقيين، لكنها على ما يبدو "حكومة مع وقف التنفيذ" إذ عجزت عن حماية المواطنين من الإرهاب وصيانة سيادة البلد من التدخلات العسكرية والسياسية الأجنبية، وتوفير الخدمات الأساسية، بل عجزت عن حماية حتى البعثات الدبلوماسية، بينما ضاعفت الفقر والبطالة، بتخبطها وسياساتها العشوائية.
الانتخابات الأخيرة التي أجريت في عام 2018، لم تكن حاسمة، وبغض النظر عن التزوير، الذي أصبح سمة ملازمة لكل انتخابات عراقية منذ عام 2005، فقد كانت النتائج غامضة، إذ كانت هناك كتلتان في البرلمان تدعيان (الفوز) وتشكيل الكتلة الأكبر، لكن الرئيس العراقي برهم صالح، ترك الكتلتين تتنازعان على الموقع الأول واختار عادل عبد المهدي الذي لا ينتمي لأي منهما، لتشكيل الحكومة، بطريقة غامضة ومخالفة للأعراف الدستورية المتبعة.
والأغرب في تلك الحكومة أن كل (الزعماء) الآخرين صمتوا ولم يعترضوا مطلقا على هذا التكليف، ما جعل كثيرين يعتقدون بأن هناك أمرا قد صدر من جهة عليا (أعلى من الشعب العراقي الذي هو مصدر السلطات وفقا للدستور) لا يمكن الاعتراض عليها لتلبية طموح طالما راود مخيلة السيد عادل عبد المهدي في أن يكون رئيسا للوزراء.
كثيرون ظنوا أن المرجع الشيعي علي السيستاني كان وراء هذا التكليف، لأنه الوحيد الذي لا يعترض على آرائه وقراراته أحد علنا على الأقل، ولكن سرعان ما تبدد الغموض، إذ أعلن الإيرانيون أنهم (انتصروا) على أميركا في العراق بواقع (3 - صفر)، أي أنهم هم الذين عينوا الرئاسات الثلاث، رئاسة البرلمان، ورئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء!.
الأميركيون رفضوا الادعاء الإيراني، وقدموا التهنئة إلى أربعة وزراء في حكومة عبد المهدي، أحدهم استقال تحت حراب المليشيات عندما قدموا له مسلحون عقدا بثمانين مليون دولار لشراء مواد مستوردة سعرها الحقيقي 12 مليون، والآخر اتُّهِم بتعيين 90 ألف شخص بأجر يومي في وزارته، امتثالا لأوامر مليشيا أخرى، والثالث لا يجيد قول جملة مفيدة واحدة، لكن لديه صفات نادرة لم تتوفر لأحد قبله منها أنه مواطن أميركي ويوالي إيران، أما الرابع فهو شخص مهني وكان قد تقاعد قبل سنوات عديدة، ولكن جيء به إلى الوزارة لإضفاء صفة الكفاءة عليها، علما أنه لم يكن يوما محسوبا على الأميركيين، وإنما على أعدائهم الذين أزالتهم الدبابات الأميركية من الحكم في العراق.
انتشى عادل عبد المهدي بأنه حقق حلمه وحلم عائلته بأن يكون أحد أفرادها في أرفع منصب في دولة اللادولة، ولا يهم إن كان الإيرانيون وراء تنصيبه، فهذا أمر سري لا يعلمه أحد سوى الله والراسخون في علم المليشيات! لكن الواضح لكل ذي عين، أنه كان ضعيفا إلى حد لم يألفه ضعيف قبله، فحتى مدير مكتبه عينه له الإيرانيون!.
وبسبب فشله وتردده وحرصه على البقاء في المنصب بأي ثمن، علما أنه كان قد استقال من منصبين تولاهما سابقا، وزير النفط ونائب رئيس الجمهورية، لكن تلك الاستقالتين كانتا على ما يبدو بأوامر من زعمائه آنذاك، فقد اندلعت احتجاجات في عهده لم يسبق لها مثيل في العراق، ثم توسعت بعد أن رد عليها بإطلاق الرصاص على صدور ورؤوس المتظاهرين، فقتل خلال بضعة أشهر ما لا يقل عن 800 شاب وشابة (580 حسب المصادر الرسمية)، بينما جُرِح ما لا يقل عن 25 ألف وخُطِف 150 آخرون، ولم يعرف أحد مصيرهم حتى الآن، وفر الآلاف إلى الخارج أو إقليم كردستان.
صمد عبد المهدي في منصبه الشكلي، رغم مطالبات الناس جميعا له بالاستقالة، وصمد معه كل وزرائه، إذ لم يمتلك أحدٌ منهم ما يكفي من الحياء كي يقدم استقالته، إذ تمسكوا بالمناصب والمكاسب حتى الرمق الأخير.
لكن عبد المهدي (الذي أصبح يسمى تهكما بعبد الكرسي) استجاب في النهاية لأمر المرجع الشيعي علي السيستاني بضرورة تقديم استقالته، فأجاب بالآية القرآنية (يا أبتِ أفعل ما تؤمَر)، علما أن الآية الكريمة غير مناسبة لا دينيا ولا موضوعيا، وكان حريا به، كرئيس وزراء (منتخب) أن يستقيل فور ظهور بوادر الفشل في حكومته، أو على الأقل مع سقوط أول متظاهر في ساحة التحرير.
وبعد ستة أشهر من الاحتجاجات الصاخبة والدموية، ومقتل المزيد من المحتجين، وبعد مداولات وتكليفات واجتماعات ومفاوضات وتكهنات، اتفقت القوى (السياسية) على تكليف رئيس الوزراء الحالي، الذي لم تكن له خبرة لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في الإدارة الحكومية، لكنه يحمل مزايا اقتنع بها الفرقاء، أهمها الضعف، أي أنه سيكون ضعيفا كسلفه وقابل للتسيير نحو الوجهة التي تلائم مصالحهم.
وفعلا لم يتمكن هذا الرئيس من أن يلقي القبض على أي من القتلة، رغم أننا سمعنا أنه ألقي القبض على قتلة الصحفي أحمد عبد الصمد، ولكن لا نعرف ما الذي حصل لهؤلاء القتلة؟ هل حوكموا؟ هل أدينوا؟ أم هربوا إلى دولة (صديقة)؟ أم أطلق سراحهم لأسباب إنسانية؟.
قبل يومين عرض التلفزيون الرسمي العراقي (اعترافات) مقتضبة ومتقطعة لأحد قتلة الخبير الأمني الدكتور هشام الهاشمي الذي اغتيل أمام منزله في حي زيونة ببغداد في يوليو من العام الماضي.
وبعيدا عن قانونية عرض الاعترافات في وسائل الإعلام الرسمية أو غير الرسمية، قبل تقديم المتهمين إلى المحاكمة، فهذه مخالفة قانونية واضحة، بل هو اعتداء على مهمة القضاء لأن عرض القضايا على وسائل الإعلام قبل عرضها على المحاكم يهيئ الرأي العام ضد المتهم (أو معه) ما يجعل موقف القاضي صعبا للغاية، إذ لا يمكنه أن يكون متوازنا في أحكامه، ولكن لماذا تأخر الإعلان عن القبض على هذا المجرم بعد مضي ما يقارب العام على إعلان الناطق باسم الحكومة بأنها توصلت إلى (خيوط) تقود إلى معرفة القتلة، وأن معلوماته تشير إلى أنهم هربوا إلى دولة مجاورة؟ وهل كان القاتل فردا أم عصابة كما تؤكد كاميرات المراقبة التي التقطت صورا للقتلة؟.
يقول محللون إن سبب التأخير هو أن رئيس الوزراء يعتزم زيارة الولايات المتحدة قريبا وأنه سوف يُسأل هناك عن إنجازاته خلال عام وثلاثة أشهر في (الحكم)! لذلك قرر أن يعلن عن القبض على هذا الشخص ولكن دون البوح بدوافعه ومن الذي استأجره لقتل الدكتور الهاشمي بسلاح منحته إياه الدولة العراقية كي يحارب به الإرهاب، وليس الخبراء في الإرهاب، الذين ساهموا مساهمة فعالة في دحر الجماعات الإرهابية عبر المعلومات الدقيقة والتحليلات الثاقبة التي قدموها خلال عشرين عاما من العمل في هذا المجال. لا شك أن الذي يقتل خبراء الإرهاب هو جزء من عصابات الإرهاب.
هل يعتبر الأميركيون عرض (اعترافات) مرتبكة ومتقطعة وغامضة لشخص مجهول دون تقديمه للقضاء كي ينظر في الأدلة المتوفرة على ارتكاب هذه الجريمة إنجازا عظيما لحكومة العراق خلال 15 شهرا؟ ربما، فالأمر لا يعني الأمريكيين كثيرا، ولكن هل يمكن الحكومة أن تقنع العراقيين الذين يعانون الجوع والمرض والبطالة والإرهاب وشح الكهرباء وحرائق المستشفيات.
هل من الصعب حقا على الحكومة وأجهزتها الأمنية العديدة والعتيدة أن تعرف من هم هؤلاء المسلحون الذين يقتلون ويخطفون ويسرقون ويرهبون الناس ويهربون العملة ويخربون المنشآت الانتاجية الوطنية ويستعرضون قواتهم المسلحة في بغداد في وضح النهار؟.
إن كانت لا تعرف فهي فاشلة وعليها المغادرة فورا، وإن كانت تعرف وتتستر عليهم فهذه كارثة وطنية فالتستر على القتلة هو تواطؤ معهم. يقول رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي إن معرفة هوية المسلحين الذي يعملون في اللادولة تقع على الأجهزة الأمنية والاستخبارية! لكنه ينسى أنه هو الذي أقال رئيس جهاز المخابرات المتمرس السابق وعين محله شخصا ليس ذا خبرة؟ وهو الذي أبقى شخصا مواليا لإيران على رأس جهاز الأمن الوطني! بل تحالف معه انتخابيا عام 2018! وهو الذي عين رئيس مليشيا أسستها إيران وزيرا للداخلية! وعندما استقال (احتجاجا على نقص الصلاحيات)، عين محله رفيقه في الجهاد في المليشيا نفسها! وهو نفسه الذي ضيع فرصا ذهبية لإصلاح الخراب عام 20015 عندما أقال نواب رئيس الجمهورية الثلاثة، الذين أعادتهم المحكمة إلى مناصبهم لأن الإقالة ليست من صلاحيات رئيس الوزراء، بدلا من أن يقيل الوزراء الفاشلين أو الذين يعملون لصالح دولة أخرى! وهو نفسه الذي ألغى وزارات البيئة والسياحة والآثار والعلوم والتكنولوجيا في وقت كان العراق ومازال في أمس الحاجة لها.
يمكن الحكومة أن (تفخر) بأنها قدمت موعد الانتخابات ستة أشهر، فهذا على ما يبدو (إنجازها) الوحيد، وهو ليس بالأمر الهين كما يبدو للمشككين، وهم كثر في العراق، ولكن مع كل هذه الفوضى الأمنية وأعمال القتل والاغتيالات وترشح قادة الجماعات الفاسدة مرة أخرى في الانتخابات، ومقاطعة قوى تشرين والتيار الصدري لها، هل يمكنها حقا أن تجري هذه الانتخابات (المبكرة) دون أن يشوبها تزوير وإرهاب وقتل وخطف؟ وما الذي ستحققه هذه الانتخابات التي سيفوز فيها المالكي والحكيم والعبادي وعلاوي والبارزاني وطالباني وبرهم صالح والنجيفي والمطلك والحلبوسي والخنجر والكربولي واليعقوبي وهمام حمودي والجعفري، أو من ينوب عنهم؟ الحكومة الحالية هي حكومة بالاسم فقط. إنها حكومة مع وقف التنفيذ. أما (الانتخابات) التي سيقاطعها أكثر من نصف الناخبين فسوف تنتج حكومة كسيحة أخرى.